مجتمع

القلق: أزمة صامتة تهدد الصحة النفسية عالميًا

القلق ليس ضعفًا، بل هو إنذار من داخل الإنسان يخبره أن هناك شيئًا لا يحتمل.. كيف نشفى من هذا القلق؟

future صورة تعبيرية (القلق)

د. رنده هشام أخصائي الطب النفسي بـمستشفى إيوان للطب النفسي وعلاج الإدمان

* سواء كنتم تعانون من اضطراب القلق المزمن أو تشكّون في وجوده، فأنتم مدعوون لقراءة السطور التالية بعناية.

كثيرًا ما يتسلّل القلق إلى داخلنا دون أن نشعر، فنمضي في يومنا مثقلين بانقباض غامض لا نعرف له سببًا. لكن لو توقّفت للحظة وسألت نفسك: هل يمكنك أن تتذكر متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالقلق بشأن مستقبلك؟ هل كان ذلك مؤخرًا؟ بالأمس؟ أو ربما قبل شهور؟ وكيف أثّر ذلك القلق فيك؟ هل تذكُر كيف أربكك ذلك الشعور، حين جعل قلبك يرتجف من مجرد فكرة؟ ذلك الإحساس القاسي الذي يجتاحك حين تهاجمك احتمالات لم تقع بعد — وربما لن تقع أصلًا — كيف عبث بك في تلك اللحظة؟

القلق لا يأتي دائمًا بهيئة أزمة واضحة؛ أحيانًا يظهر في صورة أفكار لا تهدأ، تدور في الرأس كدوّامة، تقتحم لياليك وتثقل صباحك، وتكبر حتى تتحول إلى كوابيس تُربك العقل وتنهك الجسد.

وفي ظل ما يعيشه العالم من أزمات متلاحقة، تتراوح بين الحروب والكوارث البيئية، والانهيارات الاقتصادية، والتغيرات الاجتماعية السريعة، أصبح القلق واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا على مستوى العالم. إنه مرض صامت، لا يُرى بالعين، لكنه يترك آثارًا عميقة في النفس والجسد والمجتمع.

ورغم التقدم الكبير في الطب النفسي، لا يزال القلق يُفهم في كثير من الأحيان على أنه مبالغة أو ضعف شخصية - بالأخص في البيئات الفقيرة والهشة التي تندر فيها خدمات الصحة النفسية أو تنعدم تمامًا-  مما يساهم في تفاقم معاناة المصابين به، خاصةً عندما يتجاوز القلق حدّه الطبيعي، فيصبح عبئًا نفسيًا يُعيق الإنسان عن ممارسة حياته اليومية. فالإفراط في التفكير يستنزف طاقته العقلية والجسدية معًا، حتى يغدو الذهن ساحة صاخبة تمتلئ بصراعات داخلية متشابكة، تمنعه من تهدئة نفسه أو تجاوز هذا العبء الثقيل بسلام.

ما هو القلق؟

تعرفه «منظمة الصحة النفسية الأمريكية (APA)» بأنه شعور مزمن بالقلق والشد العصبي، وقد يصحبه تغيرات جسدية مثل زيادة ضغط الدم أو ضربات القلب السريعة. ويعتبر واحدًا من أكثر الأمراض العقلية انتشارًا في العالم.

إذًا، فالقلق هو استجابة طبيعية نشعر بها جميعًا عندما نواجه خطرًا، أو موقفًا مجهولًا. وفي جرعاته المعتدلة، يمكن أن يكون دافعًا للحذر أو الإنجاز. لكن حين يتجاوز القلق حدوده الطبيعية، ويتحول إلى خوف دائم، أو توتر مستمر، أو نوبات هلع متكررة، فإنه يصبح اضطرابًا نفسيًا يحتاج إلى تدخل متخصص.

تشمل اضطرابات القلق عدة أنواع، منها: القلق العام، الرهاب الاجتماعي، نوبات الهلع، والوسواس القهري، وكلها تؤثر على جودة الحياة، وتعيق قدرة الشخص على العمل، أو الدراسة، أو حتى التفاعل الاجتماعي.

القلق كقضية صحة عامة عالمية

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 300 مليون شخص حول العالم يعانون من اضطرابات القلق، ورغم وجود علاجات فعالة لاضطرابات القلق فإن نحو شخص واحد فقط تقريبََا من بين كل 4 أشخاص (27,6%) يتلقى نوعًا من أنواع العلاج مما يجعلها واحدة من أكثر المشكلات النفسية انتشارًا.  

ومع ذلك، فإن هذه الأرقام لا تعكس الواقع الكامل، نظرًا لغياب التوعية، ووصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي، والتي تمنع كثيرين من طلب المساعدة.
وقد كشفت جائحة كورونا عن هشاشة الصحة النفسية عالميًا، حيث ارتفعت معدلات القلق بنسبة غير مسبوقة، خاصة بين العاملين في المجال الصحي، والشباب، والنساء، واللاجئين، وسكان المناطق المتضررة من الصراعات.

القلق في السياقات الهشة والمتأثرة بالأزمات

في البيئات التي تتعرض للفقر المزمن، أو النزاعات المسلحة، أو الكوارث الطبيعية، لا يكون القلق مجرد اضطراب نفسي، بل يصبح جزءًا من الحياة اليومية. ملايين الأطفال الذين نشأوا في مخيمات اللاجئين، أو في مناطق الحرب، يعانون من أعراض القلق المزمن: أرق، كوابيس، فقدان شهية، خوف دائم من المجهول.

النساء في هذه المناطق غالبًا ما يواجهن صدمات مضاعفة، نتيجة العنف، أو فقدان المعيل، أو المسؤولية المزدوجة عن الأسرة. ومع غياب الدعم النفسي، يتحول القلق إلى عبء داخلي يلتهم القدرة على التكيّف والبقاء.

الصحة النفسية كحق إنساني

الصحة النفسية ليست رفاهية، وليست ترفًا يخص الأغنياء فقط، بل هي حق إنساني أصيل، يجب أن يحظى به كل فرد، مهما كانت خلفيته أو ظروفه. وضمن أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة، تُعتبر الصحة النفسية جزءًا لا يتجزأ من الصحة الجيدة والرفاه، لكنها لا تزال تتلقى تمويلًا ودعمًا أقل بكثير من باقي مجالات الرعاية الصحية.

من هنا، يصبح من الضروري:

- إدماج برامج الصحة النفسية ضمن الاستجابات الإنسانية.
- تدريب الكوادر المحلية على تقديم الدعم النفسي المجتمعي.
-كسروصمة المرض النفسي من خلال حملات توعية  شعبية.
- دعم خدمات العلاج النفسي عن بُعد، خاصة في المناطق النائية.
- العمل على توفير أدوية ومراكز علاج ميسرة التكلفة للجميع.

نحو عالم أكثر وعيًا ورحمة

القلق ليس ضعفًا، بل هو إنذار من داخل الإنسان يخبره أن هناك شيئًا لا يحتمل. والاستماع لهذا الإنذار لا يجب أن يكون ترفًا أو وصمة، بل خطوة نحو الشفاء والاحتواء. إذا أردنا عالمًا أكثر عدلًا وسلامًا، فعلينا أن نأخذ الصحة النفسية على محمل الجد؛ كأولوية إنسانية، وركيزة للتنمية، وجزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان.

# صحة نفسية # علم نفس # القلق

«دليل النجاة الفردية»: خارطة طريق للتعافي من إساءات الأهل
دليلك الشامل لحماية طفلك من التحرش
20 انحناءة في اليوم: كيف تطفئ التفاصيل الصغيرة قلوب الأمهات؟

مجتمع